فصل: تفسير الآيات (20- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (19):

{وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)}
{وكذلك بعثناهم} أي كما أنمناهم وحفِظنا أجسادَهم من البِلى والتحلّل آيةً دالةً على كمال قدرتِنا بعثناهم من النوم {لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} أي ليسأل بعضُهم بعضاً فيترتب عليه ما فُصّل من الحِكَم البالغةِ، وجعلُه غايةً للبعث المعلّل فيما سبق بالاختبار من حيث إنه من أحكامه المترتبةِ عليه والاقتصارُ على ذكره لاستتباعه لسائر آثارِه {قَالَ} استئنافٌ لبيان تساؤلِهم {قَائِلٌ مّنْهُمْ} هو رئيسُهم واسمُه مكسلمينا {كَمْ لَبِثْتُمْ} في منامكم، لعله قاله لِما رأى من مخالفة حالِهم لما هو المعتادُ في الجملة {قَالُواْ} أي بعضُهم {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قيل: إنما قالوه لأنهم دخلوا الكهفَ غُدوةً وكان انتباهُهم آخرَ النهار، فقالوا: لبثنا يوماً، فلما رأَوا أن الشمسَ لم تغرُبْ بعْدُ، قالوا: أو بعضَ يوم، وكان ذلك بناءً على الظن الغالب فلم يُعْزوا إلى الكذب {قَالُواْ} أي بعضٌ آخرُ منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله سبحانه {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي أنتم لا تعلمون مدة لبثِكم وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا ردٌّ منهم على الأولين بأجملِ ما يكون من مراعاة حسنِ الأدب وبه يتحقق التحزبُ إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقد قيل: القائلون جميعُهم ولكن في حالتين، ولا يساعده النظمُ الكريم فإن الاستئنافَ في الحكاية والخطابَ في المحكيّ يقضي بأن الكلامَ جارٍ على منهاج المحاورةِ والمجاوبةِ، وإلا لقيل: ثم قالوا: ربنا أعلمُ بما لبثنا.
{فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} قالوه إعراضاً عن التعمق في البحث وإقبالاً على ما يُهمّهم بحسب الحالِ كما ينبىء عنه الفاءُ والورِقُ الفضةُ مضروبةً أو غيرَ مضروبة، ووصفُها باسم الإشارةِ يُشعر بأن القائلَ ناولها بعضَ أصحابه ليشتريَ بها قوتَ يومِهم ذلك، وقرئ بسكون الراء وبإدغام القافِ في الكاف وبكسر الواو وبسكون الراء مع الإدغام، وحملُهم لها دليلٌ على أن التزودَ لا ينافي التوكلَ على الله تعالى {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} أي أهلِها {أزكى} أحلُّ وأطيبُ أو أكثرُ وأرخصُ {طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ} أي من ذلك الأزكى طعاماً {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلّف اللُّطفَ في المعاملة كيلا يُغبَنَ أو في الاستخفاء لئلا يُعرَف {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} من أهل المدينةِ فإنه يستدعي شيوعَ أخبارِكم أي لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى ذلك، فالنهيُ على الأول تأسيسٌ وعلى الثاني تأكيدٌ للأمر بالتلطف.

.تفسير الآيات (20- 21):

{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)}
{إِنَّهُمْ} تعليلٌ لما سبق من الأمر والنهي أي لِيبالِغْ في التلطف وعدمِ الإشعار لأنهم {إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطّلعوا عليكم أو يظفَروا بكم، والضميرُ للأهل المقدّر في أيُّها {يَرْجُمُوكُمْ} إن ثبتُّم على ما أنتم عليه.
{أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي يصيِّروكم إليها ويُدخلوكم فيها كُرهاً، من العَوْد بمعنى الصيْرورة كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقيل: كانوا أولاً على دينهم، وإيثارُ كلمةِ في بدل إلى للدِلالة على الاستقرار الذي هو أشدُّ شيءٍ عندهم كراهةً، وتقديمُ احتمال الإعادةِ لأن الظاهرَ من حالهم هو الثباتُ على الدين المؤدي إليه، وضميرُ الخطاب في المواضع الأربعةِ للمبالغة في حمل المبعوثِ على الاستخفاء وحثِّ الباقين على الاهتمام بالتوصية، فإن إمحاضَ النُّصحِ أدخلُ في القَبول واهتمامُ الإنسان بشأن نفسِه أكثرُ وأوفر {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا} أي إن دخلتم فيها ولو بالكرُه والإلجاء لن تفوزوا بخير {أَبَدًا} لا في الدنيا ولا الآخرة، وفيه من التشديد في التحذير ما لا يخفى.
{وكذلك} أي وكما أَنَمناهم وبعثناهم لما مرّ من ازديادهم في مراتب اليقينِ {أَعْثَرْنَا} أي أطلعْنا الناسَ {عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ} أي الذين أعثرناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة {إِنَّ وَعْدَ الله} أي وعدَه بالبعث أو موعودَه الذي هو البعثُ أو أن كلَّ وعدِه أوكُلَّ موعودِه فيدخُل فيه وعدُه بالبعث أو مبعثُ الموعودِ دخولاً أولياً {حَقّ} صادقٌ لا خُلْف فيه أو ثابتٌ لا مردَّ له لأن نومَهم وانتباهَهم كحال من يموت ثم يُبعث {وَأَنَّ الساعة} أي القيامةَ التي هي عبارةٌ عن وقت بعثِ الخلائقِ جميعاً للحساب والجزاء {لاَ رَيْبَ فِيهَا} لا شك في قيامها فإن من شاهد أنه جل وعلا توفى نفوسَهم وأمسكها ثلاثُمائة سنة وأكثرَ حافظاً أبدانَها من التحلل والتفتّت ثم أرسلها إليها لا يبقى له شائبةُ شك في أن وعدَه تعالى حقٌّ وأنه يبعث مَنْ في القبور فيرد إليهم أرواحَهم فيحاسبهم ويجزيهم بحسب أعمالِهم {إِذْ يتنازعون} ظرف لقوله: أعثرنا قُدّم عليه الغايةُ إظهاراً لكمال العنايةِ بذكرها، لا لقوله: ليعلموا كما قيل لدِلالته على أن التنازعَ يحدُث بعد الإعثار وليس كذلك أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} ليرتفع الخلافُ ويتبينَ الحقُّ، قيل: المتنازعُ فيه أمرُ دينهم حيث كانوا مختلفين في البعث فمِن مُقِرّ له وجاحدٍ به وقائلٍ يقول ببعث الأرواحِ دون الأجساد وآخرَ يقول ببعثهما معاً. قيل: كان ملكُ المدينة حينئذ رجلاً صالحاً مؤمناً وقد اختلف أهلُ مملكته في البعث حسبما فُصّل فدخل الملكُ بيتَه وأغلق بابه ولبس مِسْحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يظهر الحقَّ فألقى الله عز وجل في نفس رجل من رعيانهم فهدَم ما سد به دقيانوسُ بابَ الكهف ليتخذه حظيرةً لغنمه فعند ذلك بعثهم الله تعالى فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
روي أن المبعوثَ لما دخل المدينة أخرج الدرهمَ ليشتريَ به الطعامَ وكان على ضرب دقيانوس، فاتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملكِ فقصّ عليه القِصة، فقال بعضُهم: إن آباءَنا أخبرونا بأن فتيةً فرّوا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاءِ، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة من مسلم وكافر وأبصروهم وكلّموهم ثم قالت الفتيةُ للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شر الإنسِ والجنّ ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا، فألقى الملكُ عليهم ثيابَه وجعل لكل منهم تابوتاً من ذهب، فرآهم في المنام كارهين الذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً، وقيل: لما انتهَوْا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانَكم حتى أدخُل أولاً لئلا يفزَعوا، فدخل فعمِيَ عليهم المدخلُ فبنَوا ثمةَ مسجداً. وقيل: المتنازعَ فيه أمرُ الفتية قبل بعثهم أي أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرَهم وما جرى بينهم وبين دقيانوسَ من الأحوال والأهوالِ ويتلقَّوْن ذلك من الأساطير وأفواهِ الرجال، وعلى التقديرين فالفاء في قوله عز وجل: {فَقَالُواْ} فصيحةٌ أي أعثرناهم عليهم فرَأَوا فماتوا فقالوا أي قال بعضهم: {ابنوا عَلَيْهِمْ} أي على باب كهفِهم {بنيانا} لئلا يتطرقَ إليهم الناسُ ضنًّا بتربتهم ومحافظةً عليها وقوله تعالى: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} من كلام المتنازِعين كأنهم لما رأَوا عدم اهتدائِهم إلى حقيقة حالِهم من حيث النسبُ ومن حيث اللُّبثُ في الكهف قالوا ذلك تفويضاً للأمر إلى علاّم الغيوب، أو من كلام الله تعالى ردًّا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازِعين، وقيل: هو أمرُهم وتدبيرُهم عند وفاتِهم أو شأنُهم في الموت والنومِ حيث اختلفوا في أنهم ماتوا أو ناموا كما في أول مرةٍ فإذْ حينئذ متعلق بقوله تعالى: {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} وهم الملِكُ والمسلمون {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} وقوله تعالى: {فَقَالُواْ} معطوفٌ على يتنازعون، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على أن هذا القولَ ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازُع، وقيل: متعلقٌ باذكر مضمَراً، وأما تعلقُه بأعثرنا فيأباه أن إعثارِهم ليس في زمان تنازُعِهم فيما ذكر بل قبلَه، وجعلُ وقتِ التنازع ممتداً يقع في بعضه الإعثارُ وفي بعضه التنازعُ تعسفٌ لا يخفى مع أنه لا مخصَّصَ لإضافته إلى التنازُع وهو مؤخرٌ في الوقوع.

.تفسير الآية رقم (22):

{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}
{سَيَقُولُونَ} الضميرُ في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبيِّ عليه الصلاة والسلام من أهل الكتابِ والمسلمين لكن لا على وجه إسنادِ كلَ منها إلى كلهم بل إلى بعضهم {ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي هم ثلاثةُ أشخاص رابعُهم أي جاعلُهم أربعةً بانضمامه إليهم كلبُهم، قيل: قالته اليهودُ، وقيل: قاله السيد من نصارى نَجرانَ وكان يعقوبياً، وقرئ: {ثلاةٌ} بإدغام الثاء في التاء {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} قيل: قالتْه النصارى أو العاقبُ منهم وكان نِسْطورياً {رَجْماً بالغيب} رمياً بالخبر الخفيِّ الذي لا مُطَّلَعَ عليه أو ظنًّا بالغيب من قولهم: رجَمَ بالظن إذا ظن، وانتصابُه على الحالية من الضمير في الفعلين جميعاً أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجْمَ والقولَ واحد، أو من محذوف مستأنَفٍ واقعٍ موقعَ الحال من الضمير في الفعلين معاً أي يرجُمون رجماً، وعدم إيرادِ السينِ للاكتفاء بعطفه على ما فيه ذلك.
{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} هو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي وما فيه مما يرشدهم إلى ذلك من عدم نظمِه في سلك الرجْمِ بالغيب، وتغييرُ سبكه بزيادة الواو المفيدةِ لزيادة وكادةِ النسبة فيما بين طرفيها لا بوحي آخرَ كما قيل {قُلْ} تحقيقاً للحق وردًّا على الأولين {رَّبّى أَعْلَمُ} أي أقوى علماً {بِعِدَّتِهِم} بعددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ} أي ما يعلم عِدّتهم أو ما يعلمهم فضلاً عن العلم بعِدتهم {إِلاَّ قَلِيلٌ} من الناس قد وفقهم الله تعالى للاستشهاد بتلك الشواهد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: حين وقعت الواوُ انقطعت العِدّةُ وعليه مدارُ قوله رضي الله عنه: أنا من ذلك القليل ولو كان في ذلك وحيٌ آخرُ لما خفيَ عليه ولما احتاج إلى الاستشهاد بالواو ولكان المسلمون أسوةً له في العلم بذلك. وعن علي كرم الله وجهه أنهم سبعةُ نفرٍ أسماؤُهم: يمليخا ومكشليبنا ومشليبنا، هؤلاء أصحابُ يمينِ الملكِ وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستةَ في أمره، والسابعُ الراعي الذي رافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوسَ واسمه كفيشيططيوش {فَلاَ تُمَارِ} الفاءُ لتفريع النهي على ما قبله أي إذ قد عرفتَ جهلَ أصحابِ القولين فلا تجادلهم {فِيهِمْ} في شأن الفتية {إِلاَّ مِرَآء ظاهرا} قدرَ ما تعرّض له الوحيُ من وصفهم بالرجم بالغيب وعدمِ العلم على الوجه الإجمالي وتفويضِ العلم إلى الله سبحانه من غير تصريحٍ بجهلهم وتفضيحٍ لهم فإنه يُخِلُّ بمكارم الأخلاق.
{وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} في شأنهم {مِنْهُمْ} من الخائضين {أَحَدًا} فإن فيما قُص عليك لمندوحةً عن ذلك مع أنه لا علمَ لهم بذلك.
وقال عطاء: إلا قليلٌ من أهل الكتابِ فالضمائرُ الثلاثة في الأفعال الثلاثةِ لهم وما ذكر من الشواهد لإرشاد المؤمنين إلى صحة القولِ الثالثِ وفيه محيصٌ عما في الأول من التكلف في جعل أحدِ الأقوالِ المحكية المنظومةِ في سِمْط واحدٍ ناشئاً عن الحكاية مع كون الأخيرين بخلافه ووضوحٌ في سبب حذف المفعولِ في لا تُمار، والمعنى حينئذ: وإذ قد وقفتَ على أن كلَّهم ليسوا على خطأ في ذلك فلا تجادِلْهم إلا جدالاً ظاهراً نطَق به الوحيُ المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مُصيباً وإن قل، والنهيُ عن الاستفتاء لدفع ما عسى يُتوهم من احتمال جوازِه أو احتمالِ وقوعِه بناءً على إصابة بعضهم، فالمعنى لا ترجِعْ إليهم في شأن الفتيةِ ولا تصدّق القولَ الثالثَ من حيث صدورُه عنهم، بل من حيث التلقّي من الوحي.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)}
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء} أي لأجل شيءٍ تعزم عليه {إِنّى فَاعِلٌ ذلك} الشيءَ {غَداً} أي فيما يُستقبل من الزمان مطلقاً فيدخُل فيه الغدُ دخولاً أولياً فإنه نزل حين قالت اليهودُ لقريش: سلُوه عن الروح وعن أصحاب الكهفِ وذي القرنين، فسألوه عليه الصلاة والسلام فقال: «ائتوني غداً أُخبرْكم» ولم يستثنِ فأبطأ عليه الوحيُ حتى شق عليه وكذّبته قريشٌ. وما قيل من أن المدلولَ بالعبارة هو الغدُ وما بعد ذلك مفهومٌ بطريق دِلالة النصِّ يرده أن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي، فإن وسعةَ المجالِ دليلُ القدرة فليتأمل.

.تفسير الآيات (24- 25):

{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)}
{إِلاَّ أَن يَشَاء الله} استثناءٌ مفرَّغ من النهي أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حالَ ملابستِه بمشيئته تعالى على الوجه المعتادِ وهو أن يقال: إن شاء الله أو في وقت من الأوقات إلا وقتَ أن يشاء الله أن تقوله لا مطلقاً بل مشيئةً إذن، فإن النسيانَ أيضاً بمشيئته تعالى، ولا مساغَ لتعليقه بفاعل لعدم سِدادِ استثناءِ اقترانِ المشيئة بالفعل ومنافاةِ استثناءِ اعتراضها النهي، وقيل: الاستثناءُ جارٍ مَجرى التأبيدِ، كأنه قيل: لا تقولنّه أبداً كقوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله} {واذكر رَّبَّكَ} بقولك: إن شاء الله متدارِكاً له {إِذَا نَسِيتَ} إذا فرَطَ منك نسيانٌ ثم ذكرتَه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد سنةٍ ما لم يحنَثْ، ولذلك جوّز تأخيرُ الاستثناءِ، وعامةُ الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عَتاقٌ ولم يُعلم صِدقٌ ولا كذِبٌ. قال القرطبيُّ: هذا في تدارُك التَّرْك والتخلف عن الإثم، وأما الاستثناءُ مبالغةٌ في الحث عليه، أو اذكر ربَّك وعقابَه إذا تركت بعضَ ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارُك، أو اذكره إذا اعتراك النسيانُ ليذكِّرك المنسيَّ، وقد حُمل على أداء الصلاةِ المنْسية عند ذكرِها {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى} أي يوفقني {لاِقْرَبَ مِنْ هذا} أي لشيء أقربَ وأظهرَ من نبأ أصحابِ الكهفِ من الآيات والدلائل الدالةِ على نبوتي {رَشَدًا} أي إرشاداً للناس ودلالةً على ذلك، وقد فعل عز وجل ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظمُ من ذلك وأبينُ كقصص الأنبياءِ المتباعدِ أيامُهم والحوادثِ النازلة في الأعصار المستقبلةِ إلى قيام الساعةِ أو لأقربَ رشداً وأدنى خبراً من المنسيّ.
{وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ} أحياءً مضروباً على آذانهم {ثلاث مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} وهي جملةٌ مستأنَفةٌ مبيّنةٌ لما أُجمل فيما سلف وأُشير إلى عزة منالِه، وقيل: إنه حكايةُ كلامِ أهلِ الكتابِ فإنهم اختلفوا في مدة لُبثِهم كما اختلفوا في عِدّتهم فقال بعضهم هكذا وبعضُهم ثلاثمائة.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: عند أهلِ الكتابِ أنهم لبِثوا ثلاثَمائةِ سنةٍ شمسيةٍ والله تعالى ذكر السنةَ القمريةَ والتفاوتَ بينهما في كل مائة سنةٍ ثلاث سنين فيكون ثلاثَمائةٍ وتسعَ سنين، وسنينَ عطفُ بيانٍ لثلاثمائة، وقيل: بدلٌ وقرئ على الإضافة وضعاً للجمع موضعَ المفردِ ومما يحسّنه هاهنا أن علامةَ الجمعِ فيه جبرٌ لما حُذف في الواحد وأن الأصلَ في العدد إضافتُه إلى الجمع.